تعالت الأصوات مؤخراً في تعز بشأن ضريبة القات التي ظلت لسنوات مورداً ثابتاً للسلطة المحلية بعد النسبة التي يأخذها المقاولون الذين يتولون مهمة جبايته، ويسلم جزء للبنك المركزي، لكن قرار قيادة محور تعز بتحويلها إلى دعم الجيش وجبهات القتال، كشف جانبا من الخلاف العميق حول أوجه استخدام الإيراد، في وقت تخلت فيه الدولة والحكومة عن مسؤولية تمويل الجبهات ورعاية المقاتلين.
وبين من يرى أن هذه الخطوة كانت ضرورية لضمان بقاء خطوط المواجهة صامدة، وبين من يعتبرها مخالفة للقانون الذي يوجب توريد هذه المبالغ للسلطة المحلية والبنك المركزي، حتى لا تتحول إلى سابقة تشرعن تمويل الحرب من موارد محلية يفترض أن تذهب للخدمات العامة، فإن وضع الجبهات يبدو مهدداً بالانهيار حتى مع تسخير هذا المورد لصالحها، فكيف سيكون الحال إذا حُرم الجيش منه فعلاً؟.
تصاعد الخلاف
بدأت الأزمة في 22 مايو الماضي، حين شكّلت قيادة محور تعز العسكري لجاناً خاصة لتولي تحصيل ضريبة القات مباشرة من النقاط العسكرية على مداخل المدينة، في خطوة برّرتها بالحاجة الملحّة إلى دفع مبالغ شهرية للمقاتلين الذين تركتهم الحكومة المركزية بلا رواتب منذ أكثر من عامين.
لكن السلطة المحلية، بقيادة المحافظ نبيل شمسان، رأت في القرار تعدياً على القانون، وسارعت إلى توجيه مذكرات رسمية لوزير الدفاع، ثم لرئيس الوزراء، تطالبه بإعادة الإيراد إلى الخزينة المحلية والبنك المركزي، وفي 10 أغسطس الماضي، وجّهت وزارة الدفاع المحور بتنفيذ ذلك، لكن التوجيه لم ينفذ.
عندها خرج الخلاف إلى العلن، مع تبادل الشكاوى والتصعيد الإعلامي الذي بدأ بتسريب صورة من توجيه وزارة الدفاع، وتصاعد الجدل على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
وتزامن الجدل مع إجراءات الحكومة والبنك المركزي لضبط سوق الصرف واستعادة الاستقرار الاقتصادي، ومن بينها التأكيد على ضرورة توريد جميع الإيرادات إلى البنك المركزي وفروعه، وهو ما جعل ملف ضريبة القات في تعز أكثر سخونة، باعتباره المورد الأبرز الذي يعتمد عليه الجيش لتثبيت مقاتليه في الجبهات.
تاريخياً، كانت ضريبة القات في تعز مجرد مورد محلي هامشي، لكنها تضاعفت تدريجياً حتى باتت اليوم شرياناً رئيسياً للمعركة، فبعد أن بدأت عام 2016 بمورد لا يتجاوز 400 ألف ريال يومياً، ارتفعت خلال السنوات التالية وصولاً إلى نحو 25 مليون ريال يومياً في الفترة الأخيرة، وبالتوازي مع هذا النمو تحولت الضريبة من بند مالي بسيط مخصص للبنية التحتية والمشاريع الخدمية إلى القناة الأساسية التي تمول الجبهات وتسد بعض احتياجات المقاتلين.
قرار قيادة محور تعز بالاستحواذ على ضريبة القات لم يأتِ من فراغ، تقول مصادر عسكرية تحدثت لـ"المصدر أونلاين" موضحة أن المحور اضطر إلى هذا الخيار بعد أن تفاقمت ظاهرة تسرب الجنود من مواقعهم بحثاً عن مصدر رزق، فيما ينضم آخرون إلى تشكيلات عسكرية خارج تعز تتلقى رواتب شهرية بالعملات الأجنبية تفوق مجمل ما يحصل عليه جندي تعز في عام كامل.
هذا الواقع، مقروناً بتوقف دعم الحكومة المركزية، دفع قيادة المحور إلى إنشاء لجان مالية خاصة تتولى التحصيل الميداني من النقاط العسكرية وتوزع المبالغ مباشرة للمقاتلين كل نصف شهر، بمعدل يتراوح بين 30 و50 ألف ريال للفرد، وهي مبالغ لا تمثل سوى جزء ضئيل مما يحتاجه لتغطية أدنى متطلبات الحياة.
وغياب الدولة في هذا الملف ظل سمة بارزة، فمن الناحية الإدارية يُفترض أن يتبع محور تعز للمنطقة العسكرية الرابعة التي تعد الأكبر عدداً على مستوى الجيش بنسبة 56 بالمئة من إجمالي عدد الجيش، وفق تقرير سابق للمصدر أونلاين، كما يفترض أن يتلقى تمويله من وزارة الدفاع، لكنها لم تقدم أي دعم يُذكر منذ سنوات، بل إن وزير الدفاع لم يسبق له زيارة محور تعز العسكري والاطلاع عن قرب على أوضاعه، فيما اعتذرت الوزارة مراراً عن أي التزامات بحجة ضعف الإمكانات.
وتشير المصادر إلى أن آخر مخصص مالي وصل للمحور كان في الثلث الأول من عام 2023، دون أي دعم للوقود أو الصيانة أو النفقات التشغيلية، هذا الانقطاع انعكس حتى على تفاصيل الحياة اليومية للمقاتلين في الجبهات، فوزارة الدفاع التي كانت تمول تغذية لنحو 12 ألف جندي، قلصت العدد تدريجياً حتى وصل إلى 2400 فقط، قبل أن تتراجع بعد نقاشات طويلة وترفع العدد إلى 6 آلاف فقط، ما أجبر المحور على تغطية آلاف الجنود خارج القوائم بإمكانات محدودة.
وتحيط جبهات تعز بالمدينة التي تعيش حصاراً شبه كامل من قبل ميليشيا الحوثي، وتمتد هذه الجبهات من جبهة الأحكوم والصلو والأقروض مروراً بجبهات شرق وشمال وغرب مدينة تعز وصولاً إلى جبهة مقبنة.
كما أن الأعباء لا تقتصر على الجبهات فقط، تقول المصادر، بل تمتد إلى ملف الجرحى الذي يوصف داخل المحور بـ"المأساوي"، فاللجنة الطبية العسكرية لا تتلقى أي ميزانية تشغيلية ثابتة، فيما يحتاج الجرحى المقعدون وحدهم إلى نحو 50 مليون ريال شهرياً لتأمين المستلزمات الأساسية، خصوصاً من يتلقون العلاج خارج البلاد.
وتشير المصادر العسكرية إلى وجود 150 جريحاً بحاجة ماسة للسفر إلى الخارج للعلاج، وآلاف آخرين يحتاجون إلى دعم شهري منتظم، في ظل غياب أي آلية رسمية تكفل لهم أبسط حقوقهم، محذرة من مآس إنسانية كبيرة قد تحدث لهذه الأسر، ناهيك عن الخطر الوجودي على جبهات المدينة.
إلى جانب ضريبة القات، حاول المحور تدبير موارد إضافية لكنها مجتمعة لم تقترب من سد الفجوة، بحسب المصادر، مشيرة إلى فرض خصم قدره ألف ريال من راتب كل جندي، ما يوفر أحياناً نحو 20 مليون ريال مع كل راتب يسلم للجنود، وهي رواتب غير منتظمة، كما أُضيفت 15 مليون ريال من رسوم الجوازات بعد تفاهمات طويلة، إلى جانب دعم شهري لا يتجاوز 20 مليون ريال من السلطة المحلية، ومبالغ أخرى محدودة من جهات مختلفة.
وإجمالاً لا يتعدى هذا كله 80 مليون ريال شهرياً، وهو رقم هزيل إذا ما قورن بالاحتياجات واتساع الجبهات، تضاف إليه عوائد من البترول والديزل تصل إلى 180 مليون ريال شهرياً، لكنها تستهلك معظمها النفقات التشغيلية، إضافة إلى رسوم المنفذ الشرقي للمدينة الذي يحتاج وحده إلى نحو 50 مليون ريال أسبوعياً لتغطية متطلبات القوة المرابطة فيه.
من جانبهم يشير مسؤولون محليون إلى أن ما تحصل عليه تعز من موارد لا يكاد يغطي الحد الأدنى من الاحتياجات، يقول مهيوب الحبشي، مدير عام الموارد المالية بالمحافظة، في لقاء صحفي: "السلطة المحلية ربما تعاني كما يعاني الجيش. لم تحصل على أي دعم مركزي رسمي أو موارد سيادية منذ العام 2015، وتعتمد بشكل رئيسي على ضريبة القات بنسبة تصل إلى 55 – 60 في المئة، إضافة إلى موارد الريع العقاري وعوائد جوازات السفر. هذه هي موارد تعز بشكل عام."
ورغم ذلك، تبرز اتهامات للسلطة المحلية بالفساد في إدارة الضريبة خلال فترات سابقة، تبرز اتهامات بالفساد في إدارة الضريبة خلال فترات سابقة، تقول معلومات حصل عليها "المصدر أونلاين" إن المحافظ كان يتسلم 300 ألف ريال يومياً من الإيراد، فيما يحصل الوكيل الأول على 150 ألف ريال يوميًا، إلى جانب مبالغ أخرى لمسؤولين بحسب مناصبهم، وهي جميعها خارج ما يسمح به القانون.
وتشير المصادر إلى أن شبكة المستفيدين تمتد لتصل إلى موظفين نافذين في وزارة المالية، مشيرة إلى أن انقطاع هذه الحصص هو سبب الضجيج الأخير.
وتعزز هذه الوقائع الانطباع بأن الضريبة تحولت إلى مورد قابل لإعادة التوظيف بحسب موازين النفوذ، أكثر من كونها أداة مالية شفافة مكرسة للصالح العام، فبينما تتمسك السلطة المحلية بحجة "الالتزام بالقانون" وترفض تمويل الجبهات، يقول مؤيدو المحور إن السلطة نفسها أنفقت أموال الضريبة في مصاريف إدارية ومكافآت لا تدخل ضمن ما يجيزه القانون، وفي كل الأحوال، فإن النتيجة النهائية واحدة، الجبهات تُركت دون دعم كافٍ من الدولة، والمقاتلون وجدوا أنفسهم يعتمدون على مورد محلي لم يُصمَّم أصلاً للحرب.
ووسط كل هذا الصراع، تكاد جبهات القتال أن تنسى فلا حكومة ولا وزارة دفاع أو سلطة محلية تبدو معنية بالأمر، فيما يحذر مراقبون وعسكريون بأن ما يجري اليوم أمر خطير، فـ "إدارة طوارئ" واعتماد دعم الجبهات على حركة أسواق القات وتحصيلات النقاط العسكرية ومزاج القوى المحلية، دون وجود قاعدة مؤسسية تضمن استمراريته أو شفافيته، يجعل صمود الجبهات رهيناً بعوامل غير مستقرة، ما قد يجعلها عرضة للانهيار في أي لحظة.
وما بين مؤيد للمحور ويرى في الخطوة حماية للجبهات، ومعارض يحذر من خطر إضعاف مؤسسات الدولة، تبقى الحقيقة الصادمة أن مقاتلاً يواجه الحوثيين على تخوم تعز يتقاضى جزءاً من راتبه من صندوق مؤقت على بوابة سوق القات، فيما الدولة التي يفترض أن تدعمه ما تزال غائبة عن المشهد، وإن حضرت فحضورها فقط، لحرمانه من فتات هذا الصندوق!.