أعتقد أن الرموز السياسية ليست محض تفاصيل عادية أو عابرة في حياة الشعوب؛ فهي في لحظات التحوّل التاريخي تتحول إلى مرآة تكشف جوهر الصراع بين مشروع يريد اختزال المجتمع في دائرة مغلقة، وإرادة جمعية تصرّ على البقاء في فضاء الدولة الرحب.
في الحالة اليمنية، يبدو أن رفع العلم لم يعد مجرد حركة شكلية، بل فعل وجودي يتجاوز طقوس الاحتفاء إلى إعلان ضمني عن معنى آخر للسيادة والانتماء. ولعل ما يجعل هذه اللحظة ذات دلالة أعمق هو أنها تتشكل في مواجهة ميليشيا تسعى لاحتكار الحياة العامة، فيما يكشف فعل المقاومة الرمزية أن المجتمع، رغم الجراح والانكسارات، ما يزال قادراً على استعادة صوته وصياغة أفق مختلف.
في الواقع أرى أن لحظة رفع العلم اليمني في وجه الحوثية تبدو أبعد من مجرد فعل رمزي؛ إنها لحظة تكثّف فيها الإرادة الجمعية للناس في مقاومة الخوف والانكسار. فالميليشيا التي تحرص على عسكرة الحياة العامة وتكميم الأفواه، تدرك أن علَماً مرفوعاً في ساحة عامة أبلغ في تهديد مشروعها من ألف خطبة رسمية. في هذا المعنى، تتحول الابتسامة المرافقة للعلم إلى لغة مضادة للاستبداد، وإلى إعلان غير مكتوب بأن الناس، رغم القمع، لا يزالون قادرين على صياغة معنى الدولة من جديد.
الذاكرة القريبة تحتفظ بصورة دقيقة: ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٣، حين حاولت الميليشيا قمع مواطنين خرجوا للاحتفال بذكرى الثورة. إلا أن الرد جاء في اليوم التالي بخروج أوسع، ملوّحاً بمزيد من الأعلام، شباباً وأطفالاً ونساءً وشيوخاً. تلك المشاهد في اعتقادي لم تكن مجرد مناسبة عادية أو عابرة، بل تعبيراً عن وعي جمعي متجدد يرى في الجمهورية خياراً لا يمكن التنازل عنه، ورفضاً قاطعاً لمحاولات إعادة إنتاج الحكم السلالي البائد.
لكن خلف هذه الصورة الزاهية، يقبع واقع إنساني بالغ القسوة. أحد عشر عاماً من الانقلاب المسلّح أفرزت تطييفاً خطيراً في النسيج الاجتماعي، ورسّخت هوية عنفية لا تعبأ بالإنسان الفرد إلا بقدر ولائه للمشروع الثيوقراطي. الميليشيا، في عمقها، لم تكن يوماً مشروع دولة، بل أداة هدم منظمة تعمل وفق وصايا ولاية الفقيه، وتحاول فرض نظام مغلق على مجتمع متنوع. وفي هذا التناقض الجذري بين طبيعة المجتمع ومشروع الميليشيا، يكمن سرّ هشاشتها المستقبلية.
لقد أدركت هذه الجماعة أن بقاءها مرهون ببث الرعب وتكميم الفضاء العام، وبإشعار الناس أن أي فعل مقاوم لن يجرّ سوى الألم. غير أن وقائع التجربة تكشف العكس: فكلما ازداد القمع، اتسعت الرغبة الشعبية في الانعتاق. ولعل هذا التلازم بين الاستبداد ورغبة التحرر يمثل قانوناً تاريخياً أكثر رسوخاً من كل ما تحاوله الميليشيا لترسيخ سلطتها. فحياة الناس حين تُدفع إلى حافة اليأس، تتحول تلقائياً إلى قوة رفض غير قابلة للاحتواء.
وعليه، فإن استعادة الدولة لا تظل مجرد شعار سياسي، بل شرطاً وجودياً للناس في مواجهة الانهيار. إنّ عجز مجلس القيادة والحكومة عن ترجمة هذه الحاجة الملحّة إلى فعل حاسم، يضاعف تعقيدات المواجهة المقبلة، ويجعل أي تأجيل بمثابة منح الميليشيا فرصة جديدة لتوسيع خرابها. ولذلك، فإن السؤال الحاسم اليوم لم يعد إن كان اليمنيون يريدون استعادة دولتهم، بل إن كان القادرون على القرار السياسي مستعدين لتحويل هذه الإرادة الشعبية إلى فعل، قبل أن يتسع الفراغ ويتحول إلى هاوية.
إنّ ما يواجهه اليمن اليوم لا يمكن اختزاله في معركة مع جماعة مسلّحة فحسب، بل هو في تصوري صراع بين مشروع دولة يتأسس على التعدد والمواطنة، ومشروع نقيض يستمد وجوده من القمع والتطييف وإلغاء الفرد.
وفي لحظة يتكثّف فيها الوعي الشعبي الرافض، يصبح الامتحان الحقيقي في اعتقادي معقوداً على قدرة الفاعلين السياسيين على الارتقاء إلى مستوى هذه الإرادة الجمعية، وترجمتها إلى فعل حاسم يعيد للدولة معناها وشرعيتها. فالمستقبل لن يُرسم بالشعارات أو الرموز وحدها، بل بالقرار السياسي القادر على إنهاء الفراغ، وحسم الخيار بين طريق الدولة أو السقوط في هاوية اللادولة.
* (المصدر أونلاين)