صارت باريس في القرن الثامن عشر إلى مركز الأنوار Siècle des Lumière. وفي القرن التاسع عشر أضيئت شوارع المدينة بالمصابيح فأطلق عليها مدينة النور، لتأخذ صفة النور مرتين في المجاز والحقيقة. كتب إدوارد سعيد قائلاً إنها كانت عاصمة العالم في القرن التاسع عشر. مأوى للمثقفين والفلاسفة والشعراء الفارين من بلدانهم الأوروبية، ثم للقادمين من دول الجنوب العالمي. لم تسلّم باريس اللقب، وإن ادّعت أميركا أنها قائدة العالم الحر فإن تمثال الحريّة الذي تقع عليه أعين سكان نيويورك مرة واحدة في اليوم، على الأقل، كان هديّة من باريس.
في عمله الشهير "أطروحات حول فلسفة التاريخ" يقول والتر بنيامين: ليس هناك وثيقة من الحضارة إلا وهي في الوقت نفسه وثيقة من البربرية". كانت الحضارة الغربية تشعّ أنوارها إلى الداخل والجيوش إلى الخارج. ولم تكن الإبادة التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر بين عامي 1954- 1962 استثناء. خرجت فرنسا من الحرب العالمية الثانية منهكة، ولكنها بقيت قادرة على "العض"، كما في مراسلات ديغول مع تشرشل. وحتى يدرك حلفاؤها أنها لا تزال قادرة على العيش خارج حدودها، وضبط استقرار مستعمراتها، فقد أبادت ما يزيد عن ثمانية آلاف قرية جزائرية. كان الجزائريون الذين يتعرضون للإبادة إرهابيين وعصابات شيطانية تهدد الجزائرين والفرنسيين على السواء. أطلق جيش الاستعمار الفرنسي على نفسه صفة قوات حفظ السلام Force de l’Ordre، مهمتها حماية الجزائرين من الإرهاب، فالجزائر هي فرنسا، كم قالت بوسترات الدعاية آنذاك.
لم تعترف فرنسا المعاصرة بالإبادة، ويبدو أن أفضل ما قدمته في هذا السياق، في العام 1999، هو الارتقاء بتصنيف الجريمة من "أحداث الجزائر" إلى حرب الجزائر.
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر زار المؤرخ الفرنسي دو توكفيل أميركا، وعلى إثر زيارته كتب عمله الكبير "حول الديموقراطية في أميركا". مثّلت أميركا، في خيال دو توكفيل، النموذج الأكثر اكتمالاً للعدالة الاجتماعية، وللحرية. كمؤرخ كان يعرف أن واشنطن، العاصمة، كانت قبل مائة عام من زيارته لا تزال مستقرّاً لقبائل Piscataway التي عاشت على ضفاف نهر بوتوماك. الدولة التي صارت مثالاً سامياً للعدالة الاجتماعية أخفت أمّة بشرية من الوجود. أما كيف فعلت ذلك، وما اتخذته من أساليب وسبل في الجريمة، بما فيها الوسائل البيولوجية، فتعج بها كتب التاريخ.
دعونا نلق الضوء على شكل نادر، وحتى صعب التخيّل، من الجريمة الاستعمارية بحق الشعوب الأخرى، شعوب الإنسان الأدنى. يساعدنا الماضي على فهم ما يجري الآن، تحديداً في غزة. ما تفعله إسرائيل – المستعمرة الأوروبية الأخيرة – ينتمي إلى الحقل الاستعماري نفسه، إلى التاريخ والخيال الغربي، بل إلى الغرب في صورته الأكثر بهاء: قديماً في عصر الأنوار، وحديثاً في زمن الديموقراطية الليبرالية.
في العام 2009 نشرت مطبوعات جامعة هوبكينز دراسة فائقة الأهمية للباحثة سارة جونسون، حملت الدراسة
عنواناً صادماً "اطعموهم رجالاً سود". تقصّت جونسون تاريخ استخدام المستعمر الأوروبي للكلاب في سبيل إذلال السكان الأصليين . slave-catching strategy غطت الدراسة المستعمرات بين الأميركيتين في الفترة بين 1790 و1840، وغطّت ثلاثة حقول استعمارية: أحداث الثورة الهايتية (1791-1803)، حرب المارون الثانية في جامايكا (1795-1796)، وحرب السيمينول الثانية في فلوريدا الإقليمية (1835-1842). أما العنوان فاقتبسته الباحثة من رسالة الجنرال روشامبو، قائد القوات الفرنسية فيما يعرف اليوم بهاييتي، إلى مساعده دو فيمور في العام 1803: »أبعث إليك يا قائدي العزيز 28 "كلبًا بولدوغ". هذه التعزيزات ستمكنك من إنهاء عملياتك تمامًا. لا حاجة لأن أخبرك بأن أي حصص أو نفقات غير مصرح بها لإطعام الكلاب؛ ينبغي أن تطعمهم من أجساد الرجال السود«.
في الأثناء تلك كان رينسفولد، النقيب البريطاني في الفوج الثالث ضمن ما كان يعرف بالهند الغربية، يتحرك بين الأمريكيتين ويرصد الأفعال الاستعمارية التي قال إنها تجاوزت "حدود الحضارة Civilisation boundries". وبالنسبة للباحثة ساره جونسون التي عملت على الدراسة على ضوء الفضيحة الأميركية في سجن بوغريب في العراق فإن البحث في ماضي الاستعمار، حيث الأمم العظيمة تهبط إلى مستوى ما دون إنساني وما فوق بربري، يساعدنا في فهم ما نراه الآن، فالاختلاف في حيث الشكل لا الموضوع.
بعد أن ألغت الثورة الفرنسية العبودية، بين عامي 1794-1795، جاء نابوليون وقرر استعادتها في المستعمرات الأكثر أهمية للرفاه الفرنسي. في العام 1803 أرسل قائداً جديداً إلى سانت دومينغو – هاييتي الحالية- وطلب منه إخضاع البرابرة المتعطشين للدماء بكل الوسائل. اختبر رجاله أول دفعة من الكلاب الكوبية بأن دعوا الناس لمشاهدة العرض، وهناك على منصة عالية جاء نبيل فرنسي بعبد أسود كان يعمل في قصره وربطه على عمود. الكلاب التي دربت مسبقاً على لحم الرجال السود، كما سنبين لاحقاً، أطلقت على الرجل المصلوب فراحت تنهشه حتى العظم. أصاب الهلع الناس الذين حضروا، وبلغ الخوف عظامهم. كان القائد الفرنسي الجديد، القادم من مدينة النور، يريد رؤية تلك اللحظة: الخوف والخضوع. وقد رآها. كانت عروض الافتراس تجري في حضور جمهور، وكان ذلك شرطها الأساسي.
أما كيف تُدرب الكلاب على افتراس الرجال السود دون سواهم فتلك قصة أخرى، يذكرها رينسفولد بتفصيل مذهل. في البدء تحبس الكلاب في أقفاص وحظائر وتجوّع لأيام. في الخارج، على مرأى منها، تنصب تماثيل من الخوص المطلي بالأسود، على هيئة زنجي. أمام أعين الكلاب تحشى تلك التماثيل بلحوم ودماء حيوانية. عندما يبلغ الجوع بالكلاب حافة الجنون تـُفتح الأبواب. تنقض المخلوقات الجائعة على التماثيل وتلتهم ما في جوفها من اللحم والدم. تعلمت الكلاب أن ما هو أسود هو طعام شهي. يقول رينسفولد في مشاهداته "وبينما كانوا يلتهمون ذلك اللحم الفظيع، كان الحارس وزملاؤه يلاطفونهم ويشجعونهم. وبهذه الوسيلة، كسب الرجال البيض وُدّ هذه الحيوانات".
كان المحلّيون – الذين ينعتون عادة بالبرابرة المتعطشين للدماء- يساقون لمشاهدة العرض والأطفال على الأكتاف. تقدم الباحثة ساره جونسون تحليلاً نفسياً لاستراتيجية القمع تلك قائلة "بقدر ما يمكن للمرء أن يفترض أن أكثر المخاوف بدائية لدى الجنس البشري هو أن يُؤكل حيّاً بواسطة الحيوانات المفترسة، فإن الاستخدام المتعمد للكلاب شبه المستأنسة كأسلحة جعل من الواضح أن الدولة كانت مفترساً رهيباً مستعداً لالتهام اللحم البشري بالوكالة".
وفي باريس البعيدة كان النور يفيض من شوارعها ومؤسساتها الثقافية، وكان الروائيون والشعراء يعتقدون أنه لا غنى للعالم عن بلادهم. وفيما يبدو فإن "حدود الحضارة" التي شغلت بال النقيب البريطاني رينسفولد هي حدود فرنسا، خارج تلك الحدود ثمّة شر محض لا بد من إخضاعه بالوسائل التي تليق به. لنتذكر أن القوات الفرنسية التي قتلت ما يزيد عن مليون جزائري كانت تسمي نفسها "قوات حفظ السلام". وبالضرورة، فقد كانت الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.
كان اللورد البريطاني بالكاريس، الحاكم الوحشي لجاميكا، يشرف على كتائب الكلاب المتوحشة على بعد أقل من 200 كيلومتراً من جاره الفرنسي روشامبو، حاكم هاييتي. عندما أدرك ألكاريس أن الصراع المسلح بين جيشه والمتمردّين المارون، في تسعينيات القرن الثامن عشر، يوشك أن تنزلق إلى حرب استنزاف طويلة المدى، ما قد تؤثر على استقرار المستعمرة الثرية، اتخذ قراراً باستجلاب الكلاب المفترسة من كوبا. المارون هم العبيد الزنوج الذين فرّوا من الأسر وحقول العبودية وعاشوا حياة حرّة في أماكن بعيدة عن سيطرة الرجال البيض. أما الكلمة نفسها، المارون، فأصلها أسباني وتعني الوحشي أو البرّي.
في السابق، في أوروبا، كانت الكلاب تستخدم في كشف الكمائن والمخابئ، غير أن كولونيالية "عصر الأنوار" اتخذت من الكلاب آلة للقتل. يصف المؤرخ R. C. Dalls في كتابه "تاريخ المارون" الشكل الذي صارت إليه الكلاب المدربة على لحم العبيد قائلاً " تنقضّ على عنق الإنسان أو أي جزء من جسده، ولا تتركه حتى تُقطَّع نصفين." وهكذا، يقول دالاس، فقد تمكنت الكلاب من وضع حدٍّ لحرب ربما كان من الممكن أن تُفشل فيها القوة والمهارة العسكرية وحدهما.
* (من صفحة الكاتب على فيس بوك)