أعتقد أن الخراب الذي صنعته الحوثية في اليمن ليس مجرد نتيجة حرب طاحنة أو انقلاب دموي على الدولة؛ بل هو تجلٍّ لفلسفة وجودية ترى في النفي شرطاً للحياة، وفي القهر وسيلة للسلطة. فمنذ لحظة الانقضاض على العاصمة صنعاء لم يكن الأمر انتقالاً في موازين القوة بقدر ما كان إعلاناً عن مشروع مضاد لمعنى الدولة، مشروع يجعل من الإفقار والتجويع والتدمير اليومي للكرامة الإنسانية أداة لإعادة تشكيل المجتمع وفق منطق الغلبة لا منطق المواطنة. إنّها ليست حادثة سياسية عادية أو عابرة، بل إعادة هندسة شاملة للحياة على أنقاض فكرة الوطن.
حوّلت الميليشيا الحوثية حياة اليمنيين في المناطق التي أحكمت قبضتها عليها منذ انقلابها المسلح في 21 سبتمبر 2014 إلى جحيم لا يطاق، ليس فقط لأنها صادرت الدولة ومؤسساتها، بل لأنها صادرت معنى الحياة ذاته. ففي أقل من عقد، انهار الناتج المحلي للفرد بأكثر من 50%، لتتراجع البلاد عقوداً إلى الوراء وتتحول إلى واحدة من أفقر دول العالم. هذا الانهيار في اعتقادي لم يكن عرضاً اقتصادياً، بل تعبيراً عن فلسفة في الحكم ترى أن الإفقار والتجويع هما شرط لإدامة السيطرة.
في الواقع إنّ أكثر من 70% من الشعب تحت خط الفقر، وملايين الأسر تعيش على أقل من 50 دولار شهرياً، فيما تنهب الميليشيا الموارد العامة لتبني اقتصاداً موازياً يخدم مشروعها الطائفي. وفي الوقت الذي حُرم فيه أكثر من 1.2 مليون موظف من رواتبهم، تاركين ملايين الأسر بلا دخل، تكدّست مليارات الجمارك والضرائب غير القانونية في خزائن الجماعة. إنها في تصوري معادلة مقصودة: أن يُدفع المجتمع إلى قاع الحاجة، بينما ترتفع سلطة النسب فوق القانون لتعيد إنتاج نفسها كقدر لا فكاك منه.
على هذا الخراب الاقتصادي يتغذى خراب إنساني أشدّ قسوة: نحو 17 مليون إنسان يواجهون انعدام الأمن الغذائي، ونحو أكثر من 6 ملايين على حافة المجاعة، فيما تستغل الحوثية المساعدات كورقة ابتزاز سياسي لا كحق إنساني. نحو 5 ملايين نازح فقدوا مساكنهم وأعمالهم بسبب حرب بلا رحمة، ومع كل بيت مهدّم، يُهدم كذلك معنى الانتماء. هنا تتجلى الكارثة في بعدها الفلسفي: لم تعد المأساة حدثاً استثنائياً في حياة الناس، بل تحولت إلى نمط حياة يُعاد إنتاجه جيلاً بعد جيل.
إنّ استمرار الحوثية في السيطرة على مفاصل الحياة لا يعني سوى أن المستقبل يُصادر كما صودر الحاضر، وأن كل جيل جديد سيولد وهو مؤطر بوعي الغنيمة لا وعي المواطنة. لذلك فإن كل حديث عن حل سياسي مع جماعة كهذه لا يمثل سذاجة فكرية فحسب، بل هو تواطؤ ضمني مع استدامة النفي. فالحوثية لا يمكن أن تتحول إلى شريك في صناعة الدولة، لأنها لا ترى نفسها داخل هذه الصناعة بل فوقها، خارج التاريخ المدني ومفاهيمه. إنها ليست مشروعاً سياسياً قابلاً للتفاوض، بل نقيض جوهري لفكرة الدولة نفسها.
وهكذا يتضح أن الحوثية لم تكتفِ بسرقة الدولة ومصادرة الحاضر، بل تشتغل على إعادة صياغة المستقبل بما يجعل النفي قدراً دائماً، لا استثناءً عارضاً. لذلك فإن أي رهان على تسوية سياسية معها لا يعدو أن يكون إقراراً باستمرار المأساة لا مدخلاً للخلاص.
إنّ استعادة الدولة هنا ليست خياراً تفاوضياً بين بدائل ممكنة، بل هي المعنى الوحيد المتبقي للحياة العامة؛ فما عداها ليس سوى استسلام كامل لمشروع مضاد للتاريخ، يتقن صناعة الخراب بوصفه هوية وحيدة قابلة للاستمرار.
* (المصدر أونلاين)