عقد من تكريس التخلّف وتنمية الجهل (2) صناعة العنف ومخزون الثأرات

إن انتهاج الحركة الحوثية منهج العنف، ممثلاً في القتل والتشريد والاختطاف للخصوم وتفجير منازلهم ومؤسساتهم بما فيها المؤسسات الاجتماعية والإغاثية والتربوية ودور القرآن الكريم وسواها، مما كان يسهم في حل جزئي مقدّر للمشكلة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية؛ خلّف مخزوناً هائلاً من الأحقاد والثأرات وحبّ الانتقام، كما رفع من وتيرة السخط الشعبي تجاه الحوثيين، وكان سبباً مباشراً في تبني كثير من خصومهم وضحاياهم خيار المواجهة بالسلاح، دفاعاً عن النفس والعرض والكرامة ومستقبل أبنائهم، بمن في ذلك من تضرّر من سياساتهم تجاه مؤسسات التعليم والقائمين عليها، أي من تضرّر من جرّاء مسلك التفجير والتدمير للمؤسسات التربوية والأكاديمية، على نحو مباشر، كالمدرّسين والطلبة والإداريين والعاملين فيها بصورة عامة، أم ممن كان يعدّ وجود مثل تلك المؤسسات في دائرة سكنه أو متجره، أو مكتبته، أو مطعمه، أو مقهاه ...إلخ سبباً مقدّراً في توفير رزق أو مكسب مادي مشروع له ولأولاده.


وهنا تُذكر مؤسسات تعليمية وأكاديمية عدّة، كانت هدفاً مباشراً مقصوداً، أو غير مباشر ولا مقصود للحوثيين، لكنها تضرّرت من جرّاء سياساتهم تجاه مؤسسات التعليم العام والعالي (الجامعي)، وأبرزها – على مستوى التعليم العالي- جامعة الإيمان وفروعها في المحافظات، التي تمكّن الحوثيون من السيطرة عليها، ومراكز القرآن الكريم ودوره في أكثر من مديرية ومحافظة، نظراً لكونها كانت هدفاً رئيساً مباشراً ومقصوداً للحوثيين وحلفائهم، ومَنْ وراءهم إقليمياً ودولياً، ثم تأتي المؤسسات الإغاثية والاجتماعية والإنسانية والخيرية، تلك التي كانت تعمل على التخفيف من حدّة الفقر والمعاناة والأمراض، مما أسهم بقدر من التصافح والتغافر والتآلف والتكافل بين أبناء المجتمع، ولا يستثنى من ذلك المؤسسات التي كانت تعمل لصالح فلسطين والقدس وغزّة، فقد كانت ضمن المؤسسات التي طالها تضييق الحوثيين، بل نهب بعضها وتمّت مصادرته، وتعرّض بعض القائمين عليها للأذى، وإن ظلّت تعمل بعد ذلك أو بعضها شكلياً، ولكن في إطار سيطرة الحوثيين واستحواذهم عليها، ونفوذ عناصرهم داخلها، أو فرض سياساتهم عليها!

ومما أسهم في مزيد من الاحتقان الاجتماعي وزراعة روح الانتقام والرغبة في الثأر – ما سبقت الإشارة إلى طرف منه- وذلك أنه حين يُعاني أبناء المجتمع من وضع كارثي شامل – بما في ذلك التعليم بقسميه العام والعالي- يتم ترتيب أعلى الوظائف العامة للمنتمين إلى جماعة الحوثيين، وما غدا يُعرف بشريحة (الهاشمية السياسية)، حتى وإن لم تنطبق عليهم شروط الوظيفة العامة، أو يحوزوا المؤهلات الكافية لتسنّمها، ومع كون أحد لا يعترف بحكومة الحوثيين ومنها وزارة التعليم العالي التابعة لحكومتهم؛ فإن من اللافت أن يتم ابتعاث بعض أبنائهم أو إرسالهم – بطريقة أو بأخرى- للدراسة في الخارج، ضمن قوام وزارة التعليم العالي في الحكومة الشرعية، دونما خضوع لقانون الابتعاث، في ظل الفساد الذي ينخر مؤسسات الشرعية، وليس التعليم العالي استثناء في ذلك- إن لم يكن النموذج الأسوأ- ولكون الحوثيين أضحوا يمتلكون إمكانات دولة سُلِّمت لهم تسليماً، ولكون الفساد لايزال يسيطر على مؤسسات الشرعية- كما سبق التأكيد-؛ فإن الحوثيين بحكم إمكاناتهم المادية الهائلة، وقدرتهم على النفوذ والاختراق لمؤسسات الشرعية بوسائل عدّة؛ لا يعدمون الحيل للدفع ببعض عناصرهم للدراسة خارج البلاد، باسم التعليم العالي اليمني (الشرعي) ذاته. وليت مبتعثيهم هؤلاء – أو أغلبهم على الأقل- يعترفون بجميل الحكومة الشرعية، ولو بصمتهم، لكن بعضهم يتحوّل إلى ناشط في بلد الابتعاث، وكأنه سفير الحوثي المباشر هناك، حيث ينخرط في أنشطة، تُبرز مظلومية الحوثي، في مقابل تشويه سمعة الحكومة الشرعية، خاصة حين استدعت التحالف العربي في بداية الانقلاب الحوثي لمساعدتها في التخلّص منه. ولمن قد يشكّك في هذه السردية؛ أن يتابع أنشطة العناصر الطلابية الحوثية في بعض جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا وغيرها، وتسويقهم للأجندات الحوثية بحماسة مفرطة، ليرى كيف يدخلون في صراع محتدم أحياناً مع زملائهم المؤمنين بالدولة الشرعية، الرافضين للانقلاب الحوثي وسلطته، ثمّ إن الخطورة الأكبر بعد ذلك، تأتي حين يعود بعضهم إلى البلاد، يحملون شهادات عليا، في مختلف التخصصات، تمنحهم حق الحصول على مواقع عليا في الدولة، باسم شهاداتهم (من الخارج)!.

ما بعد الحرب وفاجعة الثارات:

إن مخزون الأحقاد والثارات لا يبدأ تنفيذه بصورته الفاجعة إلا بعد الحرب، وفقاً لدراسات تمت في حروب عديدة، وهي في الواقع تأكيد لمقولة رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل (ت:1965م)، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية"...الحرب التي انتهت وضعتنا أمام الحرب الأخرى التي بدأت، والتي ستكون أشدّ وأعنف، حرب إزالة ما تركته حرب السلاح من آثار..." ([1]).

وتبقى الحقيقة المرّة الأليمة، تلك التي يؤكدها الواقع الأمر، وهي صعوبة بناء النفوس، على نحو يتجاوز صعوبة بناء الحجارة، وهي حقيقة يشهد لها علم النفس والتربية والاجتماع، كما يقرّرها خبراء الحروب، بمن فيهم خبراء الحروب المحلّفين أمثال تشرشل وسواه، ناهيك عن أن آثارها تمتد لأجيال وأجيال، إذ إن تلك الآثار تظهر في صورة أمراض عصبية ونفسية، فتنعكس على الحالة الاجتماعية للمجتمع ككل ([2]).

إن تفشي الصدمات النفسية بين الأطفال، بسبب الهجمات العشوائية، وقصف الطيران، واقتحام المنازل، وزراعة الألغام الفردية، وتزايد ظاهرة العنف الأسري الذي خلّفه الوضع الاقتصادي المتردّي؛ يقود إلى اضطرابات نفسية، لدى معظم الأطفال الذين اصطلوا بسعير الحرب. ووفقاً لتقرير أصدرته منظمة سام للحقوق والحريات في 20/11/2022م، متزامناً مع الاحتفال باليوم العالمي للطفل؛ فقد أشارت إلى المعاني السابقة، ونقلت عن دراسة صادرة عن مركز العربية السعيدة للدراسات، أن "معظم الأطفال في اليمن، من سن 10 – 19 عامًا (سن المراهقة) يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، جراء تأثير الحرب، وما رافقها من عنف في الواقع وعبر وسائل الإعلام". وتوصلت الدراسة المعنونة بـ" اضطرابات كرب ما بعد الحرب لدى الأطفال اليافعين في اليمن"، إلى أن الانهيار الاقتصادي المصاحب للحرب، وارتفاع أسعار الغذاء، وما نجم عنه من عنف وتفكك أسري، تسبب بمزيد من الصدمات النفسية بين الأطفال اليافعين"([3]).

وبتدمير البنية التحتية للبلاد بشقيها الإنساني والمادي؛ استشرى اليأس في نفوس العديد من أبناء اليمن -والناشئة بوجه أخص- كما لو كان قدرهم المقدور أن يظلوا في حفرة المعاناة ومربع التخلف ودائرة الفقر، إذ تتطلب تلك البنية التحتية عقوداً متطاولة لإعادتها لما كانت عليه فقط، وقد كانت في وضع لا تحسد عليه قبل ذلك.

وبذلك يكون قد قضي على الإنسان- بمن فيه الكفاءات ذات التأهيل العالي- في هذه الحقبة، إما بالقتل المباشر، وإما بالتشريد والاغتراب، وما يعنيانه من معاناة نفسية متفاقمة، وإما بالاختطاف، وما يعنيه ذلك من امتهان الكرامة، وسحق الآدمية، وبيع كل ما تمتلكه بعض الأسر أو استدانتها وإراقة ماء وجهها، في سبيل إنقاذ أحد أو بعض أفراد أسرتها، خاصة بعد أن صار أمر إطلاق بعض المختطفين عرضة للمزاد العلني، حيث يأمل من يدفع أكثر -بالنسبة لكثير من المخطوفين-بإمكان إطلاق سراح قريبه، بل لقد غدا أعضاء هيئات التدريس، والمعلمون المختطفون من جامعاتهم أو مدارسهم أو منازلهم أو طرقهم يدرجون أحياناً ضمن صفقات التبادل العسكري بين الأسرى، مع أن ذلك خاص -في الأصل- بالمقاتلين في الميدان!

* (المصدر أونلاين)

(أ.د أحمد الدغشي – أستاذ أصول التربية وفلسفتها– جامعة صنعاء)

************************

* هوامش:

(1) كريستين نصار، واقع الحرب وانعكاساتها على الطفل: حالة خاصة: الطفل اللبناني، 1411هـ-1991م، ط الأولى، لبنان- طرابلس: جروس برس، ص 65.

(2) كريستين نصّار، المرجع السابق، ص 66.

(3) منظمة سام للحقوق والحرّياتhttps://samrl.org/l.php?l=a,10...، سام تدعو المجتمع العالمي للمساهمة في إيجاد حلول للتحدّيات التي تواجه أطفال اليمن،20/11/2022م (شوهد في

21/11/2022م)


شارك الخبر


طباعةإرسال