أعتقد أن الكارثة الإنسانية في مناطق سيطرة الحوثية ليست مجرد حدث عادي أو عابر يضاف إلى سلسلة الحروب، بل هي صورة مكثفة لانهيار المعنى نفسه في حياة الناس. حين تُترك الجثث مطمورة تحت الأنقاض لأيام، بينما يظهر قادة الميليشيا على الشاشات محتفلين بالقصف الخارجي كما لو كان نصراً، يصبح المشهد أكبر من مجرد مفارقة سياسية؛ إنه إعلان فج عن طبيعة سلطة ترى في الموت وسيلة لإنتاج خطابها، وفي معاناة المجتمع مادة دعائية لتثبيت مشروعها.
فالمأساة هنا لا تنطق بلغة الألم وحده، بل بلغة التوظيف الذي يحوّل الإنسان من غاية إلى أداة، ومن ضحية إلى صورة تُستعرض لتبرير الاستبداد. وهكذا يغدو الخراب اليومي شهادة دامغة على فلسفة سلطة تتغذى على الدم وتُطيل عمرها بالدموع، فيما يتوارى جوهر الحقيقة: أن اليمني لم يعد في مواجهة عدو خارجي وحسب، بل أمام مشروع داخلي يقتات على فقره ودمه، ويحوّل المستقبل إلى رهينة بيد أوهام الشعارات.
في الواقع لم يعد الوضع الإنساني في مناطق سيطرة الحوثية مجرد مأساة آنية، بل تجلٍّ صادم لفقدان المعنى في الحياة اليومية. عشرات الجثث لا تزال مطمورة تحت الأنقاض منذ أسبوع، بينما يظهر قادة الميليشيا على الشاشات محتفلين بالقصف الإسرائيلي لليمن كما لو أنه نصر يُضاف إلى رصيدهم. هنا ينكشف التناقض بأوضح صوره: موت الأبرياء يُحوَّل إلى مشهد دعائي، فيما تُمحى من الوعي العام حقيقة أن السيادة والكرامة الوطنية تُستباحان تحت ذريعة خدمة مشروع خارجي لا علاقة له بمصلحة اليمنيين.
في الواقع حوّلت الحوثية الفاجعة الإنسانية إلى أداة دعائية بائسة؛ الأمهات الثكالى والأطفال الجوعى يُعرضون في التلفاز لا لطلب إنصاف أو نجدة، بل لتبرير استمرار الحرب وتكريس مشروع سلالي مغلق.
إنّ هذه الممارسات في تصوري تعكس فلسفة سلطة ترى في الإنسان مجرد وقود لخطابها، وفي الدم وسيلة لمراكمة الشرعية الزائفة. وكأن معاناة الناس، بدلاً من أن تفرض على السلطة مسؤولية أخلاقية، تتحول إلى ذريعة لإطالة أمد المأساة وصناعة بطولة زائفة تتغذى على الكراهية.
والمفارقة أن الحوثية، وهي ترفع شعار “الموت لإسرائيل”، إنما تقدم لإسرائيل خدمة مجانية بتحويل اليمن إلى ساحة حرب مفتوحة. فكل قصف جديد يُستغل لتغطية جرائم الداخل: النهب والجبايات والاعتقالات والتعذيب والفساد. بهذا المعنى، يصبح العدو الخارجي مجرد ذريعة، فيما العدو الحقيقي الذي يفتك بالمجتمع هو مشروع داخلي يستمد بقاءه من إفقار الناس واستعبادهم.
إنّ الفاجعة هنا لا تكمن فقط في الدمار والضحايا، بل في أن الدم اليمني تحوّل إلى وسيلة للابتزاز والمقايضة، فيما يظل المستقبل معلّقاً بين رماد الحرب وأوهام الشعارات.
* (المصدر أونلاين)