هل تعافى الريال اليمني حقّاً؟ نقاش في فلسفة "التعافي"!

لست من أهل الاقتصاد، ولا أسمح لنفسي اقتحام تفاصيل ميدان لا أحسنه، غير أن بعض الجوانب في كل مجال، أشبه بالهامش العام الذي بوسع كل معني به، أو مستهدف بعملياته، أن يقدّم وجهته، مادامت مشفوعة بالمنطق العام، وأبجديات المجال، في ضوء الرؤية الثقافية العامة، والروح الفلسفية للمجال ذاته.

ففي أواخر شهر تمّوز/ يوليو2025م، وفي غير سياق متسق مع عملية إصلاح اقتصادي أو سياسي، أو معالجات جدّية معلنة، كوديعة مالية، أو حتى وعود من مؤسسات مالية اعتبارية بدعم الخزينة العامة، أو سياق طبيعي يشي بإمكان تحقيق أي نجاح في عملية تعافي العملة اليمنية، مقابل الدولار الأمريكي أو الريال السعودي؛ بدأت حالة وصفت بـ"التعافي" للريال تظهر دفعة واحدة، ومن غير تدرّج، في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، حيث تراجع سعر الدولار الأمريكي في آخر مزاد نظّمه البنك المركزي في عدن من 2,707 ريال إلى 16,00، والريال السعودي من نحوالـ8,00 إلى نحو 4,50ريالاً، وهو ما دفع عدداً من الباحثين الاقتصاديين والخبراء إلى التشكيك في سلامة هذه الإجراءات وجدواها واستمرارها ( يمن إيكو، 2/8/2025م (شوهد 3/9/2025م). https://yemeneco.org/archives/...

حاول البعض الربط بين ذلك التعافي "الظاهري" وتعيين رئيس حكومة جديد في 3مايو/أيار2025م هو سالم بن بريك، وقيام الأخير بجملة قرارات تربط كل المؤسسات الاقتصادية والبنوك والمصارف في ربوع المحافظات بالبنك المركزي في عدن، غير أن ذلك الربط -مهما قيل عنه إيجاباً- لن يرتقي إلى أيّ مستوى للإجراءات الحازمة والقرارات التي كانت وصفت -بحق- بـ "التاريخية"، أي تلك التي كان قد أقدم عليها رئيس البنك المركزي اليمني بعدن، في حكومة أحمد بن مبارك، في عام 2024م-كما ستتم الإشارة عاجلاً- ومن ثمّ فذلك ربط لا أساس له، خاصة أن ابن بريك تولّى وزارة المالية، على مدى 6 سنوات متتابعة، في أكثر من حكومة، أي منذ سبتمبر/أيلول 2019 حتى تاريخ تعيينه رئيساً للحكومة في 3 مايو/أيار 2025م، ولم يؤثر عنه تحقيق أي إنجاز في هذا الملف، أو حتى إيقاف فعلي لعملية تدهور العملة وهي تجري بسرعة قياسية، بل جرت التدهورات الأبرز في عهد ابن بريك الطويل، وبلغت أعلى مستوى لها، ومن المشكوك فيه أن يتغيّر الأمر شيئا يُذكر بعد تعيينه رئيساً للحكومة، وبهذه السرعة الخاطفة، ومن غير أيّة مقدّمات موضوعية، لا سيما أننا نعلم أن الحكومة اليمنية والمجلس الرئاسي لم يعد أيّ منهما يملك قراراته، ولا سيما في ملف كهذا، محكوم – قبل غيره- بسياسة الإقليم خاصة؟! وكيف يمكن للمرء أن يصدّق الإقليم هذه المرّة، وهو الذي قهر إرادة اليمنيين، وتجاوز كل تعهداته بإنقاذ اليمن وتخليصها من سيطرة الحوثيين وانقلابهم، وما يمارسونه يومياً بحق الشعب اليمني، بل على العكس من ذلك؛ مارس الإقليم الضغوط المكثفة والشديدة ، على الحكومة اليمنية، للحيلولة دون مضي رئيس البنك المركزي اليمني بعدن الدكتور أحمد غالب المعبقي، في تنفيذ مصفوفة قراراته" التاريخية"، التي شرع في تطبيقها في إبريل/نيسان 2024م، بهدف عملية إنقاذ تاريخية متكاملة للاقتصاد الوطني، على نحو جدّي وصادق، حين اتخذ تلك الحزمة من القرارات الاقتصادية الحاسمة والمؤثرة، فوصفت بـ" التاريخية"، إذ بدأت تؤتي ثمارها الإيجابية العاجلة، وأعلن الحوثيون تأثيرها المباشر السلبي عليهم؛ فتداعى الإقليم وما يسمّى بـ"المجتمع الدولي" للسعي نحو إنقاذ الحوثيين، من هذا المأزق المحْكَم، كما أنقذوهم في محطات عسكرية سابقة، سواء في فرضة نهم منذ بداية شهر فبراير/شباط 2016م، أم الحديدة في ديسمبر/كانون الأول 2018م، أم سواهما، أمّا عرّاب ذلك الضغط على الحكومة فكان السفير السعودي في اليمن محمد آل جابر، الذي تواصل مع مبعوث الأمم المتحدة في اليمن غروندبرغ، ليتجه تكثيف الضغط أممياً وإقليمياً على الحكومة الشرعية، كي تتراجع عن قراراتها التاريخية تلك، في صورة اتفاق "سري"، تمّ بين الحكومة اليمنية والحوثيين، برعاية أممية، وذلك في 22يوليو/ تمّوز 2024م، لإنقاذ الحوثيين بعد أن بدأت معالم تهاوي غطرستهم الاقتصادية، وهيمنتهم السياسية والعسكرية، في الظهور، وجرجرة الاقتصاد الوطني – من ثمّ- وراء سياسات الإقليم و المهيمنين الكبار " المجتمع الدولي" العدائية الصريحة، تجاه اليمن؟!

ومع أن الكاتب لا يجاري هنا حتى مصطلح "التعافي"، في ظل وضع مأزوم كهذا، لأنه بهذا التوصيف للواقع؛ يعدّ "التعافي " مصطلحاً مخادعاً، يسهم في تزييف الوعي، ويسعى لمحو الذاكرة، ويهدف إلى الإرغام على التكيّف مع الواقع السيء المفروض على الشعب اليمني، أيّاً كان هذا الواقع ومجرياته، فإذا كان لمجرّد عودة قيمة الدولار الواحد إلى 1,600 ريال يمني، والريال السعودي إلى 4,50 ريالا يمنياً، معنى إيجابي مطلق، أو حتى غالب؛ عما كان عليه الوضع البئيس – أصلاً- في سنة 2014م، حين كان سعر صرف الدولار الأمريكي 2,15 ريالا يمنياً، والريال السعودي 57 ريالاً يمنياً ؛ فإن في هذا استخفافاً بذاكرة الشعب، وإمعاناً في إدامة معاناته اليومية، حيث يدرك كل ذي حسّ وروح وأخلاق من اليمنيين خاصّة؛ أنه لم يتغير شيء إيجاباً، في هذا الملف، طيلة أكثر من عشر سنوات، بل تضاعفت معاناة اليمنيين عشرات المرّات، سواء من حيث تحسين أوضاعهم الاقتصادية، كتحريك راتب العاملين في قطاعات الدولة- باستثناء كبار المسؤولين، ومن منهم خارج البلاد بالخصوص، ومن ركب سفينتهم - أم على أيّ مستوى من مستويات الحياة المعيشية والصحية والتعليمية وأزمة السكن والخدمات الأساسية، والبنية التحتية بصورة عامة، أي في المياه والغاز المنزلي والطرقات والمواصلات والوقود والكهرباء وغيرها، ولا سيما في بعض المناطق ذات الطبيعة الجغرافية الخاصة، فكيف به اليوم ؟!

أو بتعبير آخر أكثر وضوحاً ومباشرة: إذا كانت العظمة في أن الحكومة أرجعت سعر الدولار الأمريكي من نحو 3,000 يمني ريال إلى 1,600 ريال يمني، والريال السعودي من نحو 8,00 ريال يمني إلى 4,50 ريالاً يمنياً؛ مع بقاء الأجور والمرتبات فعلياً بسعر ما كانت عليه في سنة 2014م، حين كان السعر للدولار لا يتجاوز 2,15 ريالاً ، و57 ريالاً يمنياً للريال السعودي، أما بقيّة الخدمات المهترئة في الأصل فقد تهالكت أكثر، طيلة هذه العشر سنوات، وانعدم بعضها من الأساس؛ فذلك هو التزييف المباشر للوعي، والاستخفاف المستمر بالشخصية اليمنية، والكذب الصراح على الشعب كلّه، لأنه بالمنطق نفسه، يمكن للحكومة أو سواها السماح برفع قيمة الدولار إلى 6,000 ريال يمني، والريال السعودي إلى 1,600 ريال يمني، ثم إعادة عملية " التعافي" الخادعة هذه بتخفيض سعر الدولار إلى 3,000 ريال، والسعودي إلى 8,00، أي كما كان قد وصل إليه حين بلغت الروح الحلقوم للمواطن اليمني، قبل نهاية شهر يوليو/تمّوز 2025م، إلا أنه بمنطق الحكومة، ومن يصفّق لها، حتى ممن يدّعون انتساباً إلى مجال الاقتصاد؛ يعدّ "إنجازاً عظيماً"، ومساراً إصلاحياً " متفرّداً" ينبغي على الجميع مباركته!

الاقتصاد.. لعبة السياسة الإقليمية

إن هذا النقاش إنما هو مجاراة لما قيل عنه "تعاف" في سعر العملة اليمنية، وعلى فرض أنه سيستديم في هذا المدى لفترة مقدّرة، حتى يتم تسوية الأوضاع المالية والمعيشية، من النواحي جميعها، وهو أمر مشكوك فيه جدّاً- لأنه مبني على غير أساس سليم ابتداء، ثمّ لأنه لم يتغيّر شيء فعلياً، يعود بنا نحو أقرب وضع للحال الذي كانت عليه أحوال المواطن اليمني في سنة 2014م، وهي من الصعوبة بمكان، في ذلك الحين، إذ الواقع اليوم يؤكّد أنّه لايزال مرتفعاً ارتفاعاً جنونياً، لا يمكن قبوله ولا التصفيق له بحال، بالنظر إلى الحيثيات السابقة، إلا إذا كان المقصود من قِبل الحكومة وخبرائها "الاقتصاديين" التعافي على قاعدة" هدّده بالموت يقبل بالحمّى"، بناء على ذلك؛ فإن كان ثمّة جديد قد يسهم في تفسير هذا التعافي المشكوك فيه وفي استمراره؛ فإن ذلك يعود إلى لُعبة سياسية إقليمية، يسعى من خلالها الإقليم إلى تهيئة الأرضية لعودة حكم آل صالح مجدّداً، ممثلاً في أحمد علي عبد الله صالح بالنسبة لخيار الرياض، وطارق محمد عبد الله صالح، بالنسبة لخيار أبو ظبي، مهما بدا الأمر فجّاً، للوهلة الأولى، من حيث تنازع الشريكين المتشاكسين (الرياض وأبو ظبي)، وتبادل المواقع في الخيارات بينهما، في شأن من الأقرب إلى ثقة هذا الطرف أو ذاك، وتلك لُعبة السياسة عندهم، حيث لا ثابت فيها سوى "المصلحة"، لكن مما يرجّح أن ما يجري على الأرض حالياً يصبّ في جانب أحمد علي – وليس طارق صالح- وأن الأول أضحى خيار الرياض -وليس أبو ظبي-؛ محاولة الرياض التلويح بالرخاء القادم، بدءاً من تعافي العُملة! ومن آليات هذا المغزى السياسي – بالنسبة للرياض بادي الأمر؛ بث البرنامج الوثائقي لقناة العربية (السعودية) (علي عبد الله صالح.. المعركة الأخيرة)، في 26/7/2025م، بما حمل من سردية جديدة عن نهاية صالح، على لسان نجله مدين، بما يدين ضمناً رواية طارق صالح خاصة، وحزب المؤتمر في الخارج بصورة عامة، ويرشّح ضمناً أحمد علي، أخا مدين، لموقع الرئاسة القادم، في ضوء هذه الرواية الجديدة، التي تجاهلت ذكر طارق تماماً، بل نحت بالاتهام – ضمناً- أو – على الأقل- باللائمة – عليه، وأعقب ذلك مباشرة العُرس الكبير ،الذي أعلن عنه آل صالح في القاهرة، في 12/8/2025م لأحد أبناء صالح، وعدد من أقارب العائلة وأصهارها في وقت واحد، وتم ترتيبه على نحو مهرجان سياسي غير مسبوق، بحضور عدد كبير أشبه بـ" المبايعين" لأحمد صالح، للمرحلة القادمة، حيث حضره مايمكن وصفهم ب" المندوبين" من مختلف أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوروبا، وبلدان الخليج وسواها، وهي رسالة مفادها أن هناك متغيرات قادمة كبيرة في البلاد، نجمها أحمد صالح، وعهده المزدهر ب واعد الرخاء بدءاً من" تعافي" سعر الريال اليمني!

أمّا الحوثيون فقد أكّدوا بطريقة تفاعلهم " الهستيرية"، مع كل ما سبق؛ أن ما يجري على الأرض اليوم؛ يستدعي منهم إعلان سياسة " الضرب بيد من حديد"- وكأنهم لم يدرجوا عليها منذ بدايات تشكل كيانهم- واتخاذ تدابير احترازية استثنائية" رادعة"، وقرارات تنفيذية "صارمة"، على نحو غير مسبوق، مما أكّد مدى الأثر الكبير والصدى الواسع، وردود الفعل " النَّزِقة"، التي استقبلوا بها كل تلك الفعاليات، بدءً من البرنامج الوثائقي، فعمدوا إلى اتخاذ قرارات عاجلة، من مثل صدور حكم بإعدام أحمد علي عبد الله صالح، ومصادرة ممتلكاته، بتهمة الخيانة والتخابر، وإسقاط موقعه نائباً لرئيس المؤتمر في الداخل، ومنع المؤتمر من إقامة احتفاليته بالذكرى الـ43 لتأسيسه، ثم اختطاف غازي الأحول ، أمين عام المؤتمر، وبعض مرافقيه، وهو ما يؤكّد شعور القوم غير المسبوق بقيام توجه إقليمي برعاية دولية – بطبيعة الحال- أكثر رغبة في هذا المسار، لوضع أحمد علي عبد الله صالح؛ حاكماً جديدا للبلاد!

* (المصدر أونلاين)


شارك الخبر


طباعةإرسال