الدعم الأمني والحكم الذاتي .. معركة تعريف الشرعية في ساحل حضرموت

تتجه التطورات في ساحل حضرموت نحو تدافع حاد بين مشروعين لا يقدّمان بديلاً واضحاً لفكرة الدولة التي يطلبها الناس. المجلس الانتقالي الجنوبي يسعى إلى تكريس تمثيلٍ سياسي وأمني يمهّد له، قبل الذهاب نحو تسوية وطنية، ابتلاع المحافظات الجنوبية والشرقية وحصر تمثيلها، بينما يتحرك “حلف حضرموت” تحت شعار “الحكم الذاتي”، وهو سقف خارج الإطار الدستوري والشرعي القائم. في المقابل، يزداد الطلب الشعبي على سلطة الدولة التي تقدّم خدمة منتظمة للكهرباء والوقود وتفرض قانوناً واحداً بلا وصاية خارجية أو قبلية.

في هذا الفراغ تحاول أطراف محلية تثبيت وقائع على الأرض. حيث اتجه الانتقالي لإشهار ورقة “قوات الدعم الأمني” كذراعٍ خشن مدعوم إماراتياً لتثبيت حضوره ومواجهة الحلف الذي تصاعد نشاطه مؤخراً. هذه القوة تمنح الانتقالي أدوات ضغط عملية أكبر، لكنها تثير أسئلة قانونية وتنظيمية حول موقعها من البنية العسكرية الرسمية. على الضفة الأخرى، يقدم الحلف نفسه كحارسٍ لحق المجتمع في عائدات النفط، ويتدخل عملياً في مسارات الشحن والتوزيع للمحروقات، ما يضعه خارج السلسلة القيادية للدولة ويفتح عليه باب التجريم القانوني.

يظهر البعد الإقليمي في الخلفية بوضوح. الإمارات تعزّز نفوذ الانتقالي عبر الإسناد الأمني واللوجستي لتشكيل عسكري جديد يسمى "قوات الدعم الأمني". عُمان تدعم شبكة اجتماعية وقبلية تمثّلها قيادة الحلف، لتوازن تمدد الانتقالي وتبقي لنفسها موطئ تأثير في الساحل. أما السعودية فتركّز على تهدئة طويلة الأمد لم تُدخل قوات “درع الوطن” إلى مناطق الساحل، وبقي تأثيرها هناك محدوداً قياساً ببقية الأطراف.

تزامن في الأسابيع الأخيرة تداول مواد دعائية تُنسب إلى القاعدة مع تحذيرات أمنية رسمية في الساحل. هذه المواد لا تحمل بصمات قنوات التنظيم المعروفة، ما يجعل نسبتها إليه محل تشكيك مهني. لكن مجرد تزامنها مع رسائل السلطة - التي تبدو متماهية مع المجلس الانتقالي في مواجهته للحلف - يصنع نوعاً من التخادم المباشر أو غير المباشر: تتوسع إجراءات الضبط باسم مكافحة الإرهاب، ويتحوّل الخلاف المحلي إلى ملف أمني مفتوح. إذا لم تُثبت المصادر وسلامة النشر بطريقة مستقلة، فإن تحويل هذا التزامن إلى ذريعة لإجراءات قصوى سيزيد الاحتقان وقد يدفع الصراع خارج إطاره السياسي.

إلى جانب أدوار القوى المحلية والإقليمية، يتحمّل المجلس الرئاسي قدراً مباشراً من المسؤولية عن مسار التصعيد في ساحل حضرموت. فبدلاً من استخدام أداة سياسية منخفضة الكلفة مثل تغيير المحافظ، وهو مطلبٌ شعبي كان يمكن أن يفتح نافذة للتهدئة، مال المجلس إلى الإبقاء على الوضع القائم، ما أفقده فرصة امتصاص الغضب وإظهار فهم الدولة لطبيعة صراع النفوذ الدائر وقدرتها على فرض معالجات تنحاز لمصلحة المجتمع. هذا الاختيار لا يبدو مفصولاً عن تشابك مصالح داخل المجلس نفسه؛ إذ تمنح حسابات التوازن بين رئيس المجلس وأعضائه أولويةً للحفاظ على ترتيبات قائمة مع شركاء إقليميين على الاستجابة لمطالب المحتجين الذين يعبرون عن حالة حنق مجتمعي وضيق بالصراع الذي يأتي على حساب مصالحهم.

في هذا السياق، يقرأ كثيرون تزامن تثبيت المحافظ مع صعود “الدعم الأمني” المدعوم إماراتياً كإشارة إلى تماهي المجلس الرئاسي مع خطوات المجلس الانتقالي وشريكته الإقليمية، بما يكرّس حضور الانتقالي في الساحل ويعيد إنتاج “معادلة شبوة” و بغطاء شرعي رسمي متكرر. مثل هذا المسار يحمّل الدولة كلفة سياسية باهظة، يضعف حضورها ويجعلها في نظر المجتمع داخلة في صراع الأطراف، ويوسّع قاعدة الاعتراض القبلي والمدني، ويحوّل أدوات الأمن إلى رافعة لإعادة هندسة المشهد السياسي بدلاً من أن تكون مظلةً حامية للجميع.

على الأرض تتشكّل ثلاثة مسارات واقعية . الأول هو حسمٌ أمني وإداري يميل لمصلحة الانتقالي، تتقدّمه قوات الدعم الأمني بالسيطرة على خطوط الإمداد والقرار المحلي، مع توظيف الشعور العام بالتعب من الأزمات الخدمية. هذا المسار يمنح الانتقالي مكاسب سريعة، لكنه يحمل كلفة اجتماعية وقبلية ويحتاج إلى إصلاح خدماتي ملموس كي لا يرتدّ ضده. المسار الثاني هو تهدئة تفاوضية برعاية سعودية تُعيد ترتيب القيادة الأمنية تحت سقف رسمي واحد، قد تشمل الترتيبات ضم قوات حماية حضرموت الى الجهاز الأمني ، وتُلزم الحلف بالتخلي عن أي وصاية على النفط مقابل ضمانات اجتماعية وإجراءات شفافية في التحميل والتوزيع والبيع ، مع خفض البصمة المباشرة لقوات الدعم الأمني وإطلاق حزمة إسعافية للكهرباء والوقود. هذا خيار أقل كلفة لكنه هشّ، وسقوطه ممكن عند أول حادث أمني أو انتكاسة خدمية. أما المسار الثالث فهو تصعيد بطيء يتحول إلى “حرب إمداد واستنزاف”: مذكرات ضبط تُقرأ كتسييس للقضاء، وردّ مضاد عبر توسيع نقاط المنع والضغط على حركة الوقود ، واستعراض مقابِل للسيطرة من جانب قوات الدعم الأمني. النتيجة هنا استنزاف مطوّل ينهك المجتمع ويضعف الجميع من دون حسم.

الخلاصة أن ساحل حضرموت يقف اليوم على مفترق بين إعادة هندسة القوة ضمن القانون والخدمة العامة، وبين إعادة تدوير القوة ضدّهما. شعار الحكم الذاتي الذي يرفعه الحلف يبقى خارج الشرعية القائمة، ومشروع الانتقالي، لا يغني عن دولة محايدة تحكمها المؤسسات.

المخرج لا يزال ممكناً بقرارٍ سياسي واضح من المجلس بتفكيك أسباب الاحتقان بخطوات ملموسة (تعيين قيادة مدنية توافقية، تحقيقات شفافة في ملفات الفساد والتهريب، وضمان ممرات آمنة للطاقة)، وإطلاق مسار حوار محلي ، يسبق ويقيّد أي ترتيبات أمنية جديدة. بدون ذلك، سيُفهَم كل تحرّك أمني على أنه تمهيدٌ لتثبيت نفوذ طرف على حساب الدولة والمجتمع، و تمديد زمن القلق وتوسيع الفجوة بين ما يريده الناس وما تفعله القوى على الأرض.


شارك الخبر


طباعةإرسال