في لحظات الانهيار الكبرى، لا يُقاس خطر الكارثة بما يحدث في العلن فقط، بل بما يُعاد تعريفه في الخفاء كأمر عادي، أو حتى كإنجاز. ذلك أن أخطر ما يمكن أن تفعله جماعة متمردة، كالحوثية، ليس فقط استيلاؤها على أدوات الدولة، بل استخدامها لإعادة إنتاج واقع مشوّه تذوب فيه المعايير، وتُفرَّغ فيه المفاهيم من محتواها؛ فتصير السيادة محض صورة، والنقد مجرّد معدن، والدولة بقايا شبح إداري يتنفس عبر فوضى ممنهجة.
وهكذا تشتغل الحروب غير المعلنة على جبهة الاقتصاد: لا بتفجير الأسواق، بل بتفكيك الإيمان بقيمتها. وفي اليمن، البلد المرهق بأزماته، يتخذ العبث المالي شكلاً أكثر خبثاً حين يُلبَس لبوس النقد، ويُدفع إلى التداول ما ليس مالاً ولا قيمة، بل تعبيراً رمزياً عن سلطة غاشمة تقايض العيش بالولاء، والمصلحة العامة بضرورات الحرب.
وفي اقتصاد يترنّح على حافة الانهيار كما هو ماثل لدى الميليشيا، لا تبدو سكّة العملات المعدنية التي تعكف عليها الجماعة الحوثية، المنقلبة على الدولة بقوة السلاح، إلا تعبيراً فجاً عن عقلية ميليشيوية تُعيد تعريف النقود بوصفها أداة حرب لا وسيلة تبادل؛ إذ تأتي فئة الـ50 ريالاً المعدنية، كما سبقتها الـ100، لا بوصفها عملة قانونية تستند إلى غطاء نقدي، بل كـ”شِبه عملة” تمثل وهماً سيادياً يائساً في مشهد مالي مختل، يشي بأن المشروع الحوثي يواصل تقويض النظام المصرفي الوطني من الداخل، مستخدماً أدوات الدولة لنسف معنى الدولة ذاتها، في انتهاك صارخ للاتفاقات الأممية، وتحد سافر لفكرة التعاقد الاقتصادي التي تقوم عليها الثقة العامة، فحين تُسكّ النقود خارج إطار الشرعية، يُسكّ الفقرُ ذاته في جسد السوق، وتُغلق أبواب التوحيد النقدي، لنصبح أمام اقتصاد ميتافيزيقي، لا يعرف الشعب فيه سوى عملة واحدة حقيقية: المعاناة.
إنّ خطورة ما تفعله الجماعة الحوثية لا تكمن فقط في سكّ عملات بلا قيمة، بل في سَكّ واقع بديل يتآكل فيه المعنى، وتُستبدل فيه أدوات السيادة بآليات فوضى لتبدو وكأنها عمل مؤسساتي تنحر ما تبقى من مفهوم الدولة من الداخل. ففي كل عملة معدنية تصدر خارج شرعية التعاقد الوطني، تُرسَم حدود جديدة للفقر، وتُعمَّق الهوة بين المواطن وسلطة لا تؤمن إلا بما يخدم حربها الطويلة.
اعتقد أن المشكلة ليست في الريال بحد ذاته، بل في اختطافه من وظيفته كوسيط للثقة وتحويله إلى أداة ترهيب وتطويع. وعليه، يصبح الاقتصاد أكثر من أرقام أو مؤشرات، بل هو ميدان للصراع على المعنى ذاته: هل ما نملكه يُشبه ما نستحق؟ وهل يمكن أن تولد دولة من رحم وهم، أو يُبنى استقرار فوق خراب؟ إنها أسئلة لا تملك الجماعة الحوثية إجابة عنها، لأنها ببساطة ليست معنِيّة بها.
* (المصدر أونلاين)