في حضرموت، وُلدت الصحافة قبل أن تُنشأ كليات الإعلام، وسبقت الكلمة الحرة كل هياكل التعليم والمنح والدعم الخارجي. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت صحف كـ"الطليعة" و"الرائد" و"النهضة" تعبّر عن نبض الناس، وتؤدي دوراً محورياً في تشكيل الوعي الوطني، من دون تمويل ضخم أو استوديوهات فاخرة. كانت الكلمة تُكتب على الآلة الكاتبة، وتُنشر على ورق عادي ، لكنها كانت أصدق وأشجع من معظم ما يُبث اليوم على الشاشات أو يُنشر في المنصات الرقمية.
أما اليوم، ورغم تزايد عدد خريجي كليات الإعلام، ووجود قناتين فضائيتين محسوبتين على حضرموت، فإن المشهد الصحفي يبدو في حالة خمول مزمن. لا نكاد نسمع عن تقرير حرك قضية، أو تحقيق كشف فسادا، أو برنامج حواري غيّر رأيا عامًا أو أقال مسؤولا. ما نراه، في الغالب، هو تكرار باهت، أو ترفيه استهلاكي، أو تغطيات خبرية تفتقر إلى العمق والمعالجة المهنية.
ويعود هذا التراجع إلى أسباب متعددة، أبرزها البيئة السياسية الهشة، التي لا تحمي الصحفي، بل تجعله مهددا إذا اقترب من الخطوط الحمراء التي ترسمها السلطات أو القوى المسيطرة. في ظل هذا الخوف، يصبح الحذر هو القاعدة، والرقابة الذاتية هي سقف الطموح.
إلى جانب ذلك، يأتي المال السياسي ليزيد المشهد قتامة. فقد تحوّلت الصحافة من مهنة قائمة على الحقيقة إلى مهنة قائمة على الاسترضاء والمقايضة. كثير من المنصات المحلية تموَّل اليوم من قِبل أطراف سياسية أو شخصيات نافذة، وتكتب بمداد التمويل لا بمداد الموقف. لم يعد بعض الصحفيين يكتبون لأن لديهم رأيا، بل لأن لديهم "فاتورة" يجب سدادها. هكذا، صارت الحيادية تُشترى، والانحياز يُفاوض عليه، والمواقف تتبدل وفق الدفع لا وفق المبادئ.
المال السياسي هنا لا يمول صحافة حقيقية، بل يصنع "بروباغندا موجهة"، و"مقالات مدفوعة"، و"حملات تشويه أو تلميع دعائية" حسب الطلب. وبهذا، أُفرغت الصحافة من مضمونها الأخلاقي، وأصبح الصحفي في بعض الحالات أقرب إلى "سمسار مواقف" منه إلى حامل رسالة. وهذا التدهور الأخلاقي أخطر من غياب الإمكانيات، لأنه يضرب جوهر المهنة في الصميم.
هناك أيضا عامل آخر لا يمكن تجاهله، وهو التحول الرقمي المشوّه، حيث تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى المصدر الأول للخبر، لكنها جرّت معها الإعلام إلى فوضى وسطحية، ودفعت بالكثيرين إلى احتراف النشر العشوائي والمطاردة اللحظية للترند، بدل بناء منصات مسؤولة وجمهور نوعي واع.
ولا بد أن نسأل في هذا السياق: لماذا لا نرى وجوهاً شابة مؤثرة في هذا القطاع رغم وجود أقسام إعلامية تخرّج المئات سنويا؟ الجواب يرتبط بجملة من الإشكالات، تبدأ بالمناهج التقليدية التي لا تواكب التحولات التكنولوجية ولا تعزز التفكير النقدي، وتمر بغياب التدريب العملي الحقيقي، وتنتهي عند واقع مهني لا يغري أحدًا: بيئة خطرة، دخل هزيل، وانعدام الأفق.
في ظل هذا الواقع، تبدو الحاجة إلى مبادرة جماعية لإحياء الصحافة الحرة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. يمكن، بل يجب، التفكير بإطلاق منصة مستقلة في حضرموت، تُدار بنزاهة، وتُموّل من اشتراكات الجمهور أو مؤسسات غير سياسية، وتكون مرجعية للمهنية والمعايير، لا للولاءات.
إن حضرموت اليوم تمر بمرحلة مفصلية في تاريخها السياسي والاجتماعي، ولا يمكن تصور نهوض تنموي أو إصلاح إداري أو وعي مجتمعي دون وجود إعلام حرّ، جريء، مسؤول. الصحافة ليست زينة ديمقراطية، بل هي إحدى أدوات الإنقاذ في المجتمعات التي تقف على حافة الانهيار أو التحول. وغيابها يترك فراغا تملؤه الإشاعة، والانتهازية، والتضليل، والخوف.
آن الأوان أن نستعيد الكلمة من قبضة المال، وأن نرد الاعتبار لقيم الصحافة التي تأسست عليها حضرموت في زمن الورق الأبيض والكلمة الثقيلة. فالإعلام لا يُقاس بعدد القنوات، بل بمستوى التأثير وبوزن الحقيقة التي يُقدّمها للجمهور.
* (من صفحة الكاتب على فيس بوك)