في العاشر من أكتوبر من كل عام، يحيي العالم اليوم العالمي للصحة النفسية بوصفه مناسبة للتذكير بأهميتها فالسلام الداخلي لا يقل أهمية عن سلامة الجسد، وأن رفاه الإنسان لا يُقاس فقط بغياب المرض الجسدي، بل بقدر اتزانه النفسي وقدرته على التكيف مع صدمات الحياة وضغوطها.
غير أن مرور هذا اليوم على اليمنيين يبدو وكأنه حدث بعيد عن واقعهم المليء بالاضطرابات المختلفة إذ تظل الصحة النفسية في اليمن ملفًا مهملاً على المستويين الرسمي والمجتمعي والشخصي، رغم ما يعيشه البلد من حرب طويلة خلفت جروحًا عميقة في الوعي الجمعي والذاكرة الوطنية.
لقد أفرزت الحرب التي دخلت عامها العاشر، أوضاعًا معقدة لا تقتصر على البنية التحتية المدمرة أو الاقتصاد المنهار، بل امتدت إلى عمق الإنسان نفسه وحياته النفسية والاجتماعية، حيث يعيش ملايين اليمنيين تحت ضغط نفسي هائل ناجم عن الفقد، والنزوح، والخوف، والحرمان، وانعدام الأمان والظروف المعيشية الصعبة وبحسب تقديرات أممية يعاني اكثر من 7 ملايين شخص في اليمن من الصدمات النفسية. ومع ذلك ما زالت الصحة النفسية تُعامل في الوعي العام باعتبارها قضية هامشية لا تأخذ حقها من الاهتمام المطلوب. فبينما تتجه الجهود نحو التفكير في تأمين الغذاء والماء والكهرباء والدواء، يغيب الاهتمام بالجانب النفسي بوصفه ركنًا أساسيًا لبقاء الإنسان واستقراره.
تشير تقارير منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من نصف اليمنيين يعانون من أعراض اضطرابات نفسية بدرجات متفاوتة، تتراوح بين القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. ومع ذلك لا تتجاوز خدمات الصحة النفسية في اليمن أصابع اليد الواحدة من حيث عدد المستشفيات أو المراكز المتخصصة بمفهومها الواسع وغالباً ما تتركز في مدن معينة. أما في الأرياف فالأمر يكاد يكون معدوماً ما يجعل آلاف الحالات تعالج بطرق بدائية أو عن طريق الرقاة والمشعوذين واستخدام أساليب بدائية ومغلوطة في ظل غياب الوعي الطبي والنفسي.
ولعل أحد أسباب استمرار هذا التهميش هو النظرة الاجتماعية السائدة تجاه المريض النفسي، إذ ما زال كثير من اليمنيين يرون في المرض النفسي وصمة اجتماعية أو خللاً في الشخصية، وليس حالة طبية تحتاج إلى علاج. هذا التصور الخاطئ يجعل المصابين يفضلون الصمت والعزلة خوفاً من الوصمة الاجتماعية، فتتفاقم حالتهم وتتحول إلى مأساة صامتة لا تجد من يسمعها أو يرعاها.
من جانب آخر تغيب السياسات الحكومية الواضحة في مجال الرعاية النفسية، سواء في التعليم أو الإعلام أو النظام الصحي. فلا وجود لاستراتيجيات وطنية تُدرج الدعم النفسي ضمن خطط الطوارئ أو برامج الإغاثة، رغم أن معظم التدخلات الإنسانية تلامس بيئات مليئة بالصدمة والفقد. كما أن غياب الكوادر المتخصصة بسبب الهجرة أو ضعف التدريب يجعل من مهمة معالجة هذا الملف تحدياً مضاعفاً في ظل غياب المهنية أثناء التوظيف في كثير من المنظمات والمؤسسات العاملة في مجال الصحة النفسية والاكتفاء بإجادة اللغة الإنجليزية بدلاً من التخصص.
ورغم المبادرات المحدودة التي يقودها بعض الفاعلين في الحقل الاجتماعي والمنظمات المحلية في محاولة لتقديم جلسات دعم نفسي جماعي للأطفال والنساء والنازحين، لكنها تظل جهوداً فردية لا ترقى إلى مستوى الأزمة. فالحرب في اليمن ليست فقط حرباً على الجغرافيا، بل حرب ألقت بضلالها على الصحة النفسية للمجتمع وتقضي كل يوم على ما تبقّى من توازن الإنسان اليمني في وجه القهر والفقد واليأس.
إن الحديث عن السلام ومن ثم إعادة الإعمار في اليمن لا يمكن أن يبدأ بالإسمنت والحديد بل بإعادة بناء الإنسان نفسياً ومعنوياً ولعل اليوم العالمي للصحة النفسية مناسبة للتذكير لأن يدرك اليمنيون أن العناية بالصحة النفسية ليست رفاهية او شيء يبعث على الخجل بل ضرورة للبقاء والفاعلية في المجتمع.
* (المصدر أونلاين)
شارك برأيك