أطلق عيدروس الزبيدي تصريحاً يلوح بإمكان انضمام مأرب وتعز إلى «دولة الجنوب العربي» المنشودة. في الظاهر يبدو ذلك توسيعاً لقاعدة المشروع، لكن تفكيكه في ضوء خرائط السيطرة وموازين المصالح يشي باعتراف يؤكد ضيق الخيارات، مشروع لا يكتمل داخل حدوده المفترضة في الجنوب، يلجأ إلى استدعاء جغرافيا من الشمال لإسناده رمزياً.
تعز ومأرب ليستا هامشاً يمكن ضمّه بخطاب؛ إنهما ركيزتان لبقاء فكرة الدولة الموحدة. في مأرب تتجسّد بنى سلطة وإدارة وموارد، وفي تعز يُسجل حضور حكومي فاعل رغم التعقيدات الميدانية. هذا التموضع يحول دون ترجمة «تقاسم واقعي» للبلاد بين الحوثي والانتقالي؛ إذ إن ضم أي من المحافظتين لا يبدل خطوط السيطرة ولا منظومة الاعتراف الإقليمي والدولي التي ما تزال ترى في وحدة اليمن الإطار الأدنى لاستقرار الداخل وأمن الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب.
ويقرأ التصريح كذلك كمحاولة التفاف على عقدة الشرق. فحيث بدت حضرموت، ومعها شبوة والمهرة، أكثر تمسّكاً بهوامش تقرير مصيرٍ محلي داخل الدولة الواحدة وأشد تحفظاً على التمكين الأحادي، ذهب الخطاب إلى استدعاء تعز ومأرب من الشمال، لا لتغيير الوقائع، بل لتغطية عجز التمدد شرقاً بإيحاءٍ سياسي يوهم بتوسيع التحالفات. لكن الإيحاء لا يُعالج سؤال القبول داخل الجنوب، اذ لا يمكن حلّ معضلة الشرعية الاجتماعية والسياسية في حضرموت والمهرة وشبوة باستيراد موافقاتٍ مفترضة من الشمال.
تمسّك الإقليم والعالم بوحدة اليمن ليس عاطفة سياسية، بل محصلة محددات صلبة. أمن البحر الأحمر وباب المندب يجعل أي تفتيت سيادي مضاعفاً لكلفة تأمين سلاسل الإمداد، ويمنح الفاعلين المسلحين قدرة أكبر على التعطيل. وشبكات الطاقة والمنافذ، نفط الشرق وغاز مأرب وممرّات شبوة وموانئ الساحل، تعمل كمنظومة واحدة تتفاقم كلفة إدارتها والاعتراف بها كلما تعدّدت الكيانات. كما أن هندسة المساعدات والمؤسسية الدولية تعمل بكفاءة أعلى ضمن إطار سيادي موحد، بينما تنتج التعدديات الهشة فراغات أمنية مغرية لجماعات العنف. وفوق ذلك كله، يفرض الاستقطاب الدولي الراهن تفضيلا واضحا لكيانٍ واحد يمكن إدماجه في ترتيبات الأمن والاقتصاد الإقليمي، على حساب كيانين متنازعين قد ينجذب أحدهما إلى أقطابٍ مناوئة.
انعكاس التصريح كان سريعًا على مستويين. في الشمال تلقته قطاعات واسعة بقدر من السخرية؛ إذ بدا كمن يمنح «وحدة جديدة» من بوابة ضمّ محافظات شمالية إلى مشروع الانتقالي الذي يرفض اليمن/ اليمنية في تعريفه؛ فخطاب «الفصل التام» لا ينسجم مع استدعاء جغرافيا الشمال لإكمال مشروع الجنوب. ومع تنامي نزعاتٍ محلية في حضرموت والمهرة وشبوة لصياغة علاقة جديدة مع المركز على قاعدة المصالح والموارد، يصبح خطاب الانفصال، بنسخته القصوى، أقل قدرة على إنتاج «حدٍّ أدنى» من الإجماع الجنوبي نفسه.
اختيار المنصة بدوره يوحي برغبة في تثبيت الحضور بعد قيود على الفعاليات الانفصالية العلنية في الولايات المتحدة للزبيدي. لكن مشكلة المشروع ليست في المنبر، بل في معادلة القوى، ما لم تنتَج موافقات داخلية صلبة على الإدارة والموارد والأمن، ويحدث اختراق في معادلة الاعتراف الخارجي، سيبقى الخطاب أعلى من قابلية التحقّق.
وهنا تبرز قاعدة قانونية وسياسية حاسمة تُسقِط حجة «الاستعادة» عند أوّل اختبار، لا ينهض أي سند لمقولة «استعادة الدولة» إلا إذا اقترنت بحدود ما قبل 22 مايو/أيار 1990. أي لعب أو تقسيمٍ خارج تلك الخريطة، كاستدعاء مأرب وتعز، يحوّل الخطاب من «استعادةٍ» إلى «اقتطاعٍ/ إلحاق»، فيصطدم بمبدأ «الحدود الموروثة» في القانون الدولي ويُضاعف كلفة الاعتراف. أخلاقياً، يُفقد المشروعَ حجته، واجتماعياً يضعف قابليته لبناء إجماع جنوبي. بكلمة مباشرة، اللعب والتقسيم خارج خارطة ما قبل 1990 يسقط عملياً كل حجج وادعاءات المشروع الانفصالي.
على أن البديل ليس ثنائية «وحدة قسرية» أو «انفصال كامل». ثمة طريق ثالث يقارب واقع القوة ويعيد بناء التعاقد السياسي، وحدةٌ بشروط جديدة تتضمن حكماً محلياً واسع الصلاحيات، وإدارة مشتركة للموارد بضمانات توزيعٍ عادل، وترتيباتٍ أمنية تُبقي المسؤولية السيادية موحدة مع تفويضات محلية متمايزة. هذا المسار لا يشيطن مطالب الجنوب ولا الشرق ولا الغرب ولا يهمل اي خصوصية، لكنه يضعها في إطار دولةٍ قادرة على التفاوض مع الداخل والخارج بلسان واحد.
الخلاصة أن خطاب الانفصال يتحرك في مساحة تفوق قدرته على ملئها؛ فكلما اتّسع لفظياً خارج الجغرافيا الممكنة، عاد واعترف، من حيث لا يقصد، بمنطق الدولة الواحدة. ما يحتاجه اليمن ليس جغرافيا بديلة، بل عقدٌ سياسي جديد يستوعب توازنات القوى ومصالح الأقاليم ويضبطها بقواعد توزيع واضحة ومسؤولية أمنية موحدة. خارج ذلك، لن يزيد تضخيم الخطاب إلا من ضيق الواقع.
* (المصدر أونلاين)
شارك برأيك