من أين تأتي القهوة، وما هو تاريخها، وكيف تؤثر على الجسم؟

من أين تأتي القهوة، وما هو تاريخها، وكيف تؤثر على الجسم؟

من شوارع نيويورك الصاخبة إلى منحدرات تلال إثيوبيا الهادئة، تعتبر القهوة جزءاً أساسياً من الحياة اليومية لملايين البشر.

وتحتل القهوة مكانة بارزة في ثقافة البشر منذ ما يزيد على 15 قرناً. والبعض ينسب إليها الفضل في حثّ الخطى التنويرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما وضع الأساس للعالم الحديث.

    ويعدّ الكافيين هو المكون التنشيطي الرئيسي في القهوة، وهو في يومنا هذا أكثر المواد المنشطة للذاكرة استهلاكاً في العالم، ما يجعل له بصمة واضحة على طريقتنا في التفكير ومشاعرنا.

    ويصادف الأول من أكتوبر/تشرين الأول اليوم العالمي للقهوة، الذي أقرته المنظمة الدولية للقهوة عام 2014 وأُطلق رسمياً في ميلان عام 2015، بهدف الاحتفاء بالمشروب وتعزيز الوعي بقضايا مزارعي البن وتشجيع التجارة العادلة.

    من أين تأتي القهوة؟

    تأتي القهوة من ثمار نبات البن العربي الذي يرجع أصله الى إثيوبيا. ويجري إنتاج أكثر من 90 في المئة من القهوة في دول نامية، خصوصاً في أمريكا الجنوبية، إلى جانب فيتنام وإندونيسيا، بينما يُستهلك معظم هذا الإنتاج في الدول الصناعية.


    وتروي الأسطورة أن راعياً يدعى خالدي في القرن التاسع لاحظ أن ماشيته تصبح أكثر نشاطاً بعد أكل ثمار القهوة، فجرّبها بنفسه، ومنذ ذلك الحين انتشر شرب القهوة بطرق مختلفة، من نقع الحبوب إلى غلي أوراق النبات.

    تذكر مصادر تاريخية أن المتصوفة في اليمن كانوا أول من قام بتحميص حبوب القهوة في القرن الرابع عشر، ليصنعوا منها المشروب المعروف اليوم. وبحلول القرن الخامس عشر انتشرت المقاهي في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، ومنها وصلت القهوة إلى أوروبا حيث تحولت المقاهي إلى فضاءات للنقاش في التجارة والسياسة والأفكار الجديدة.


    حبوب القهوة

    صدر الصورة،Getty Images

    يرى بعض الباحثين، ومن بينهم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس، أن القهوة لعبت دوراً محورياً في نشوء حركة التنوير في أوروبا.

    ويشير هابرماس إلى أن المقاهي تحولت في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى فضاءات للنقاش والنقد العام، حيث بدأ الرأي العام بالتشكل.

    ويذكر أن عدداً من رموز التنوير كانوا من محبي القهوة، مثل الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي قيل إنه كان يشرب عشرات الأكواب يومياً، والفيلسوف دنيس ديدرو الذي استعان بالقهوة خلال عمله على موسوعته المؤلفة من 28 جزءاً والتي اعتبرت لاحقاً مرجعاً أساسياً للفكر التنويري.

    ويقول تيد فيشر، أستاذ الأنثروبولوجيا ومدير معهد دراسات القهوة في جامعة فاندربيلت الأمريكية، إن القهوة لعبت دوراً محورياً في نشوء الرأسمالية.

    ويضيف في حديث لبي بي سي أن القهوة "غيّرت مسار التاريخ، وساهمت في تطوير الأفكار التي مهّدت للتنوير والرأسمالية". ويوضح أن "انتشار أفكار الديمقراطية والعقلانية والمذهب التجريبي والعلم والرأسمالية تزامن مع شيوع تناول القهوة، ولا يبدو ذلك محض مصادفة".

    ويشير فيشر إلى أن هذا المشروب، بما يوفره من يقظة وتركيز، كان جزءاً من السياق الذي مهّد لصعود الرأسمالية، إذ سرعان ما أدرك رجال الأعمال أنه وسيلة لزيادة الإنتاجية، فسمحوا للعمال باستراحات مخصصة لشربه.

    الجانب المظلم للقهوة

    يرتبط تاريخ القهوة أيضاً بصفحات مظلمة من الاستغلال، إذ استَخدم الفرنسيونَ العبيدَ الذين جُلبوا من أفريقيا في زراعة القهوة في هايتي.

    وبحلول القرن التاسع عشر أصبحت البرازيل تنتج ثلث القهوة في العالم بالاعتماد على عمالة العبيد.

    اليوم تمثل القهوة ركناً أساسياً في الثقافة العالمية، مع استهلاك يومي يتجاوز ملياري كوب، وبقيمة سوقية تقارب 90 مليار دولار سنوياً. لكن بعد نحو ستة قرون ما زالت التفاوتات قائمة، وفق منظمة "هيفر إنترناشيونال" التي تعمل على مكافحة الفقر والجوع.

    وتشير المنظمة إلى أن العاملين من غير البِيض ما زالوا يشكلون العمود الفقري لصناعة القهوة، وغالباً ما يتقاضون أجوراً متدنية.

    ويعتمد نحو 125 مليون شخص في خمسين دولة على القهوة كمصدر دخل، فيما يعيش أكثر من نصفهم في ظروف فقر.

    كيف تؤثر القهوة على الجسم؟

    فور دخول الكافيين إلى الجسم ينتقل عبر الجهاز الهضمي وصولاً إلى مجرى الدم، لكن تأثيره يبدأ فعلياً عند وصوله إلى الجهاز العصبي. وتتشابه جزيئات الكافيين مع جزيئات الأدينوزين التي يفرزها الجسم بشكل طبيعي.

    ويعمل الأدينوزين على تهدئة الجهاز العصبي الودّي، مما يؤدي إلى انخفاض معدل نبضات القلب والشعور بالاسترخاء والنعاس. أما الكافيين فيرتبط بالمستقبلات المخصصة للأدينوزين على سطح الخلايا العصبية بطريقة تشبه دخول المفتاح في القفل، لكنه يعطل عملها، وهو ما يفضي إلى نتيجة عكسية.

    هذا التعطيل قد يتسبب في ارتفاع طفيف بضغط الدم، وتنشيط وظائف الدماغ، وتقليل الإحساس بالجوع، وتعزيز اليقظة والانتباه لفترة أطول. ويمتد تأثير الكافيين أيضاً إلى الحالة المزاجية، إذ يرفعها ويقلل من الشعور بالإرهاق، كما يمكن أن يحسّن الأداء البدني، ولهذا يستخدمه بعض الرياضيين كمكمل غذائي.

    وتستمر آثار الكافيين عادة ما بين 15 دقيقة وساعتين بعد تناوله، فيما يحتاج الجسم إلى فترة تتراوح بين خمس وعشر ساعات للتخلص منه كلياً، غير أن تأثيراته قد تبقى ملموسة لوقت أطول

    ولتعظيم الاستفادة من الكافيين، ينصح الخبراء بالاعتدال في استهلاكه وتجنّب تناوله بعد منتصف اليوم، وذلك لضمان فعاليته عند شرب أول كوب من القهوة في صباح اليوم التالي. ويرى المتخصصون أن الاستهلاك الأمثل للبالغين ينبغي ألا يتجاوز 400 ملليغرام يومياً، أي ما يعادل تقريباً أربعة إلى خمسة أكواب من القهوة.

    غير أن كثيرين يتجاوزون هذا الحدّ، وهو ما قد يسبب آثاراً جانبية تشمل الأرق، والقلق، وتسارع خفقان القلب، واضطرابات في المعدة، والغثيان، والصداع. وتحذّر إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية من أن الإفراط الشديد في استهلاك الكافيين قد تكون له عواقب خطيرة، إذ إن تجاوز كمية 1200 ملليغرام يومياً، أي ما يعادل 12 كوباً من القهوة، يمكن أن يشكل خطراً مباشراً على الصحة.

    في المقابل، يعتقد عدد من الباحثين أن الاعتدال في تناول القهوة له فوائد صحية واضحة. ويقول الدكتور ماتاياس هين، الباحث في جامعة هارفارد الأمريكية، في حديث لبي بي سي، إن شرب كوبين إلى ثلاثة أكواب يومياً يقلل من خطر الوفاة، ويخفض فرص الإصابة بداء السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية، بل وحتى بعض أنواع السرطان.

    وبعد هذا العرض، ربما يجدر بنا قبل احتساء الفنجان المقبل، أن نتأمل المسار الطويل الذي قطعته القهوة منذ ظهورها وحتى تحوُّلها إلى جزء لا يتجزأ من حياة الملايين حول العالم.


    شارك الخبر


    طباعةإرسال